يرتدي قميصًا داكنَ الزرقةِ، وبنطالًا بنيًّا، وقبعتَهُ المسطحةَ الرماديةَ الباهتةَ، وبينَ سبابتِه اليمنى والوسطى سيجارةٌ تكادُ تصبح إصبعًا سادسًا، يضعُ ساقًا على الأخرى، يشيحُ بنظرِه إلى الفضاءِ البعيدِ بعينين شبهِ منغلقتين وكأنهُ غارقٌ في التفكيرِ، لا ينفكُّ عن تلكَ العادةِ كلما شعرَ بأنَّ الأنظارَ جميعَها عليهِ، ويظهرُ توترُهُ في اضطرابِ ساقِهِ اليسرى، وشعورُهُ بالمراقبةِ في دقةِ تحركاتِهِ، على الرغمِ من أنَّ لا أحدَ ينظرُ إليهِ، وقد لا ينتبهُ أحدٌ لوجودِهِ، بل أنه أحيانًا وبعدَ ساعاتٍ منَ التوترِ يصيبُهُ الفضولُ لينظرَ إلى الماكثِ على يمينِهِ فيكتشفُ أنهُ مجردُ مقعدٍ نسيَ صاحبُهُ معطفَهُ عليهِ، أو مجردُ عمودِ إنارةٍ قصيرٍ علقَ على رأسِهِ كيسٌ بلاستيكيٌ، فيشعرُ بالخجلِ من نفسِهِ.
مصابٌ بفوبيا الجمهورِ، كانَ ربيبَ الأوامرِ، ربيبَ المراقبةِ فاعتادَ عليها، كلما أرادَ تبديلَ ملابسَهُ طفلًا كانَ يستترُ خلفَ بابِ الخزانةِ أو خلفَ الستائرِ لكيلا يراهُ أحدٌ، كانَ يعيشُ سنينَهُ كما لو كانَ متبعًا بآلاتِ التصويرِ أينما ذهبَ، تنظرُ إليهِ فتطري على أدبِهِ، وكأنَّهُ خاضعٌ لرقابةِ اللهِ أو مسيطرٌ على أفعالِهِ بالرقابةِ الداخليةِ لكنَّهُ في الحقيقةِ لم يشعر يومًا بأنَّهُ بمفردِهِ، فلو خطرَ على بالِهِ أن يقترفَ خطأً، تذكرَ جملةَ: “ماذا سيقولُ الناسُ عنكَ إن فعلتَ هذا؟”، ولو خطرَ على بالِهِ أن يقولَ شيئًا تذكرَ جملةَ: “العصفورُ يخبرُني بكلِّ كلمةٍ تقولُها”، ولو خطرَ على بالِهِ مجردُ التفكيرِ بشيءٍ ما، ردَّ عليهِ صوتٌ آخرٌ في نفسِهِ يوبخُهُ أو يثني عليهِ.
كثيرًا ما كانَ يفكرُ فيما لو لم يكن سواهُ حقيقيًّا في هذا العالمِ، يرى الناسَ يصابونَ بأخبثِ الأمراضِ، يراهم يستقبلونَ أثمنَ الهدايا، يراهم يصابونَ بالسوءِ الماديِّ المحسوسِ وينعمونَ بالسعادةِ الماديةِ المحسوسةِ ولكنَّهُ مختلفٌ جدًّا بينهمُ، لا يصعدُ إلى قممِهم ولا ينخفضُ إلى قيعانِهم، فيتساءلُ عما إذا كانوا أناسًا مثلَهُ يشعرونَ مثلَهُ، يحاسَبونَ مثلَهُ، أم أنَّهُ خُلِقَ وحيدًا على هذهِ الساحةِ محاطًا “بكومبارساتٍ” لم توجد إلا لاختبارِهِ ولدَبِّ الخوفِ فيهِ أو لإعطائِهِ الأملَ وتحفيزِهِ لأن يكونَ أفضلَ مما هوَ عليهِ، يسمعُ بالفقرِ والمجاعةِ لكنَّهُ لا يمرُّ بهما مهما ساءت أحوالُهُ، يسمعُ بالغنى والثراءِ ولكنَّهُ لا يكسبُ في أي “ضربةِ حظٍّ”، يرى المشاعرَ من حولِهِ كما لو كانت أفلامًا ومسرحياتٍ، ردودُ الأفعالِ من حولِهِ مبالغةٌ جدًّا، بينما يبتسمُ هوَ في شدةِ فرحِهِ، وينعزلُ في شدةِ حزنِهِ، لا أكثرُ من ذلكَ ولا أقلُّ، ولا يحذو حذوَهمُ مهما حاولَ ذلكَ، فيحسبُ نفسَهُ غيرَ طبيعيٍّ، أو ربما مفصولًا عنِ العالمِ، أو مصابًا بأيِّ اضطرابِ من الاضطراباتِ التي يترددُ ذكرُها في مجالسِ علماءِ النفسِ كما يخيلُ إليهِ.
في كلِّ مرةٍ يذهبُ فيها إلى مكانٍ عامٍّ ليختليَ بنفسِهِ يصطحبُ كتابًا ومفكرةً وقلمًا، يفتحُ الكتابَ ليقرأَهُ فتمرُّ الدقائقَ وهوَ يعيدُ قراءةَ الصفحةِ حتى منتصفِها وذهنَهُ خالٍ من الأفكارِ، لا يستطيعُ الانسجامَ، لا يفهمُ كلمةً مما بينَ يديهِ، الناسُ ينظرونَ إليهِ وكأنَّهُ ظاهرةٌ فريدةٌ من نوعِها، أو هكذا يظنُّ، يغلقُ الكتابَ بتعبيراتٍ على وجهِهِ وكأنَّهُ لم يقتنع بما قرأَ، حتى لا يتعجبَ الآخرون من أنهُ أغلقَهُ بعدَ هذا الوقتِ دونَ الانتقالِ إلى الصفحةِ التاليةِ، أو هكذا يظنُّ، يفتحُ صفحةً بيضاءَ ويتناولُ القلمَ، يرتشفُ من كوبِهِ المرِّ، ويحاولُ تجنبَ إظهارِ عدمِ تحملِهِ للمرارةِ حتى لا يحسبُهُ الآخرون يدعي حبَّ القهوةِ السوداءِ، أو هكذا يظنُّ، يبدأُ بالكتابةِ، يكتبُ، ويشطبُ، ويكتبُ، ويشطبُ، ثمَّ يتذكرُ مراقبةَ الناسِ، فيكتبُ -على الأقلِّ- مقطعًا من أغنيةٍ ظلت تنخرُ طبلتيهِ طوالَ اليومَ، ويبتسمُ، ليظهرَ بمظهرِ الكاتبِ الذي أفرغَ ما بجعبتِهِ منَ المشاعرِ والأفكارِ، حتى يعجبَ بهِ من يراقبُ تحركاتِهِ، كما يظنُّ، ينظرُ إلى الطاولةِ المقابلةِ لهُ ليبتسمَ في وجهِ صاحبِها فإذا بهِ يجدُ كفيفًا، ينظرُ إلى الطاولةِ المجاورةِ فيجدُ طالبًا منهمكًا في دروسِهِ، وإلى الطاولةِ الأخرى فيجدَ العاملَ ينظفُّها، لم يكن هناكَ من ينظرُ إليهِ، كما ظنَّ، يحملُ أدواتِهِ، يسمعُ من يناديهِ بسيدي، فتدبُّ الحماسةُ فيهِ، أن قد يكونُ شخصًا يودُّ أن يسألَهُ عن اسمِ الكتابِ، يناديهِ مرةً أخرى باسمِهِ، فتزدادُ دقاتُ قلبِهِ، أن ربما يكونُ شخصًا ميزَ وجهَهُ ككاتبٍ، يلتفتُ ليجدَ المحاسبَ يذكرُهُ بدفعِ الفاتورةِ.
يعودُ إلى المنزلِ، ساحةِ الحريةِ، أخيرًا عمَّ الظلامُ على المدينةِ وحانَ موعدُ التصرفِ براحةٍ، تجتاحُهُ الرغبةُ بارتداءِ سروالٍ فقط وبعثرةِ شعرِهِ ومشاهدةِ مسلسلٍ كوميديٍّ بأعلى صوتٍ وتناولِ الفشارِ، وشربِ ما استطاعَ من مشروبِ الطاقةِ، لكنَّهُ يتذكرُ أنَّهُ إنسانٌ مثقفٌ، كاتبٌ، فيرتدي بجامتَهُ كاملةً، ويسرّحُ شعرَهُ، ويضيءُ مصباحَهُ الصغيرَ، ويسكبُ لنفسِهِ حليبًا عضويًّا، ويبدأُ الكتابةَ على مكتبِهِ، فلا يجدُ ما يكتبُ عنهُ، يشعرُ بأنَّهُ مقيدٌ جدًّا إلى درجةِ خوفِ الأحرفِ من أن تنهمرَ دفعةً واحدةً بينَ يديهِ، يأخذُ أنفاسَهُ، شهيقٌ عميقٌ، زفيرٌ موجعٌ، صدرُهُ يؤلمُهُ، ربما كانت هذهِ ليلتَهُ الأخيرةَ.
يراجعُ نفسَهُ، يسترجعُ شريطَ حياتِهِ الماضيةِ، ويدركُ أنَّهُ لطالما أسكنَ نفسَهُ سجنًا بلا قضبانٍ، وابتلاها بقيدٍ بلا سلاسلِ، يقررُ الاستمتاعَ بالحياةِ بعيدًا عنِ المثاليةِ، يضعُ يدَهُ على قلبِهِ، يحاولُ استشعارَ الألمَ، لم يعد يشعرُ بهِ، يصيبُهُ وسواسٌ أنهُ صارَ يوسوسُ، تتحركُ الأشجارُ في الخارجِ ويرى ظلالَها لكنَّهُ يخافُ، يصرُّ على أن أصواتَها أصواتُ بشرٍ داخلَ منزلِهِ، يستجمعُ قواهُ لمواجهتِهم بشجاعةٍ، يبحثُ عنهم، فلا يجدُ أحدًا، يصيبُهُ وسواسٌ أنَّهُ صارَ يهلوسُ، يتعرقلُ في طريقِ عودتِهِ إلى غرفتِهِ، فيصيبُهُ وسواسٌ أنَّهُ كادَ أن يفقدَ وعيَهُ، يخفقُ قلبَهُ جراءَ حاجتِهِ إلى النومِ، فيصيبُهُ وسواسَ أنَّ ملكَ الموتِ يترقبُّهُ، يعودُ بخوفٍ إلى مكتبِهِ، يتناولُ قلمَهُ الأسودَ بيمينِهِ، ويكتبُ وصيتَهُ، يبكي خوفًا من الموتِ حتى يغفوَ.
يصحو في الصباحِ التالي، خائبَ الظنِّ، ما يزالُ على قيدِ الحياةِ، فيصيبُهُ البؤسُ، يرتدي قميصًا آخرًا، وبنطالًا آخرًا، والقبعةَ ذاتَها، ويذهبُ ليتناولَ القهوةَ ذاتَها على الطاولةِ ذاتِها، مقيدًا بالدقةِ، منمقًا، تكسوهُ الثقافةُ، تحكمُهُ مراقبةُ الناسِ، بينَ يديهِ كتابُ الأمسِ ذاتُهُ، بعنوان: “العمرُ أقصرُ من أن تقضيَهُ كما يريدُ الناسُ”.