[ الشك واليقين ]

shkyqin

“كيف يمكن للإنسان أن يتخذ الشك عقيدة ويلتزم بها عن حسن نية؟ هذا ما لا أستطيع فهمه. هؤلاء الفلاسفة الشكاكون إما أن لا وجود لهم وإما هم أشقى سكان الأرض.”

جان-جاك روسو

     معك حق روسو، قد يكون أشقى الناس فعلًا هم من يؤرقهم الشك ويتبعونه، لكني لطالما أعجبت بمذهب الشك، لا أدري، فما يزعجني أكثر هو مذهب اليقين، كل المذاهب الأخرى سوى الشك هي مذاهب يقين.

     ما اعترض عليه روسو في عقيدته هو أن الجميع -من فلاسفة وغيرهم- يؤمنون بفكرة ما إلى درجة الإعجاب، فلا يتنازلون عنها، وإن كانوا قد حصلوا على الشهرة من خلال فكرة ما، فهم لا يتنازلون عنها إطلاقًا، ويندر جدا أن يجيء من يؤمن بفكرة نديد له.

     اعترض روسو على أن الجميع، جميع الفلاسفة، خاصة أولئك الذين يناقشون ما وراء الطبيعة أو يناقشون الدين أو الخالق أو الآلهة، يؤمنون دائمًا بفكرة ما إلى درجة الإعجاب، إلى درجة ألا ينظروا إلى غيرهم، وإن وجدوا الصواب عند غيرهم، يقول روسو، فإنهم إطلاقًا ومن المستحيل أن يعودوا عن فكرتهم إلى فكرة الآخر، بينما أرى بأنهم نادرون ولكن لا يمكننا إنكار وجودهم تمامًا.

     لقد كان روسو ينزعج كثيرًا من يقين الفلاسفة بأفكارهم الخاصة أو باستنتاجاتهم حتى وإن كانت مبنية على أفكار أخرى ومذاهب أخرى ومراجع أخرى، والغريب أنه في الوقت ذاته كان يزعجه مبدأ الشك أيضًا.

     ما أراه هو أن مذهب اليقين يتعب أكثر من مذهب الشك، فمذهب اليقين غالبا ما ينقلنا من مذهب يقين إلى مذهب يقين مغاير عنه، إلى آخر مختلف عن سابقه، حتى نكاد أو قد نصل إلى عقيدة أو مذهب يقين مختلف كليا عن المذهب الأول.

     أرى أن إيجابية مذهب اليقين هي في أنه يعرفنا على أكثر من مذهب بتعمّق، ويجعلنا نعيش كل مذهب يقين معين لفترة معينة ونتعمق فيه حتى نقرر ما إذا كان يناسبنا أو لا، والشيء الآخر الإيجابي هو مواكبته لتطور شخصياتنا فكلما تطورت شخصياتنا اعتقدنا بشيء جديد أو ملنا إلى حقيقة جديدة.

     لكني أرى أننا إن لم نغير من عقيدتنا وإن ثبتنا أخيرًا على عقيدة ما -أي على أي مذهب يقين ما- فقد نصاب بالتحجر والتمسك الشديد بآرائنا أو التبلد الفكري، فلا نتطور لأننا ما عدنا نسمح لعقولنا بالتفكير خارج الإطار خشية أن نشك فيما اعتقدناه، فيصبح كل ما نفكر به محصور بين طيات العقيدة أو المذهب اليقيني الذي اتبعناه أخيرًا.

     وأسميه مذهب يقين لأني أرى أن لا مذهب غير مذهب الشك يحتمل الشك، بالتالي فكل المذاهب الأخرى التي لم يخالطها شك هي مذاهب مبنية على اليقين، فإن لم تكن مذاهب شك فهي مذاهب يقين.

     من الجميل أن نفكر بأن الفطرة هي الأساس وأن نتبع أساسنا، هذا ما أؤمن به، ولكن هذا يستدعي الشك، فالإنسان ليس معصومًا من الخطأ أبدًا، بل هو كائن معرض للخطأ، كل الخطأ، الإنسان معجون من الخطأ، لذا فمن الصعب أن يثق تمامًا بأفكاره.

     لقد وصل روسو إلى اعتقاده الخاص بفضل الفطرة -كما يقول- وبفضل تقييم محسوساته الداخلية كما يصفها. لو فرضنا أن شخصًا ما وصل بمحسوسه الداخلي إلى فكرة عدمية الإله وأن موجد كل شيء هي الطبيعة ذاتها، هل من المنطق أن يسلم الإنسان عقله لهذه الفكرة الأولية دون الشك فيها لو للحظة أبدًا ؟

     هل كان ليسلم روسو نفسه لاعتقاداته الأولية التي يصل إليها ولا يسمح للشك أبدًا بأن يدخل قلبه ؟ ألم يسمح لنفسه بأن يشك فيما وصل إليه هو وما اختاره حدسه أو كما أطلق عليه “فطرته” ؟ أليس في ذلك إعجابًا بالذات أيضًا ؟

     أرى أن ثقة الإنسان التامة بآرائه إلى درجة تعميم حكمه على الآخرين قد تكون بحد ذاتها إعجابًا بالذات ومحاولة لعدم الانحياز لرأي آخر ومحاولة لتحصين النفس تمامًا من أي فكرة دخيلة، فلابد للإنسان الذي يطلق لعقله العنان أن يحتار بين شيئين -أي أن يشك في صحة أحدهما- وقد يختار بينهما ما يوقن به تمامًا ولكنه يفاجأ -يومًا ما- بقدوم ما يقنعه أكثر، عندها من الطبيعي أن يدخل الشك قلبه من جديد تجاه فكرته السابقة ويتراجع عنها ليؤمن بالجديد، لكنه إن أصر على التمسك بفكرته السابقة دون إخضاعها للشك الكافي والتحليل -رغم اعترافه في قرارة نفسه بأنها قد تكون أقل صوابًا من الفكرة الجديدة- فقد تهرّب من الاعتراف بالحق.

     لا يمكن إنكار أن الشك هو جزء من التطور، فالإنسان الذي لا يشك لا يتطور، إن الشك ضروري لاستمرارية البشرية على قيد الحياة، فإن كنا على يقين بكل شيء فلن نغيره أبدا، ومن المستحيل أن ننتقل من يقين تام إلى يقين تام دون المرور بالشك، ومن الغباء ومن إهمال العقل ألا نشك أبدًا، فما فائدة العقل إن لم نشك ؟ كيف سنفكر بشيء ونحلله ما لم نشك به ؟ ما الذي قد يمارسه عقلك بعد، إن كنت على أتم اليقين بكل أفكارك ؟

     ربما الخطوة الأخيرة المتبقية بعد اليقين بفكرة ما هي نشرها وإطلاع الآخرين عليها، وإنك بذلك تظهر لنفسك ولغيرك أنك على قناعة تامة بأنها على صواب تام لا خطأ فيه وبالتالي تصبح كبقية الفلاسفة اللذين انتقدهم روسو لثقتهم التامة بما يوقنون به، بينما لم ينتبه هو بنفسه -روسو- أنه مثلهم إذ أنه لا يعترف بالشك أبدًا. فقد انتقد روسو الطرفين، من يوقن بصواب أفكاره الجوهرية ولا يغيرها ومن يشك بأفكاره الجوهرية ويلتزم مذهب الشك، على الرغم من أنه كإنسان من الطبيعي لابد وأن يكون جزءًا منهما الاثنين، جزء من فلاسفة الشك وجزء من فلاسفة اليقين، وهذا ما يميزنا جميعًا، فلو كنا نشك في كل شيء لما تميزنا عن بعض، ولكن لأننا نشك في الكثير من الأشياء -ربما- ونوقن ببعض الأمور فإننا نتميز فكريًّا عن بعضنا البعض بناء على ما نؤمن به.

     أنا بنفسي أتبع مذهب الشك على الرغم من كل اليقين في قلبي بالكثير من الأمور، ولستُ فيلسوفة، لا أعلم ما الصواب وما الحقيقة، حتى أشك بما أراه؛ فعلى سبيل المثال تجدني أشك بالألوان من حولي، أعتقد بأني أراها بمسمياتها هذه وأن غيري يراها بلون آخر ولكني عندما أشير الى اللون الأحمر وأصفه بأنه لون أحمر يراه غيري أزرقا ولكنه يسميه أحمرا، لأن اسمه في عالمه أحمر لكنه في عالمه كالأزرق في عالمي، الأمر معقد.

     إنني أسلم نفسي للحقائق والنظريات ولكني أشك، إن آمنت بالشيء أشك في ضرورته.. إن آمنت بالشيء أشك في أصله وفي مرجعه وفي قائله.

     لقد وصف روسو الشكاكين بأشقى من على الارض، نعم إنني شقية، وأجد نفسي من أشقى البشر، ولكني أرى أن وجود الشك مختلطا باليقين موزعا بطريقة ما هو الإدراك بذاته، عندما تصبح ناضجا على الأقل مقارنة بما كنت عليه في السابق فتبدأ بالتفكير بنفسك فيما انتهجت فأنت برأيي قد وصلت إلى معنى الإدراك وإن لم تكن قد أدركت الحقيقة تمامًا لأنه شيء مستحيل، ولكنك وصلت إلى معنى الإدراك، وقد قيل بأن المرء كلما زاد إدراكه للحياة زاد شقاؤه، لذا ربما كان الشكاكون هم أكثر الناس إدراكا للحياة لأنهم لم ينتهجوا مذهبا يقينيًّا واحدًا وتعمقوا فيه إلى درجة تجريده من كل مذهب آخر ثم سيروا عليه كل أمور حياتهم بلا أدنى شك.

     كيف لنا أن نثق تمامًا بشيء كامل جاء إلينا بعد تخبطه بكل الظروف على مدى التاريخ، إنه لم يصلنا نقيًّا صافيًا، بل وصل إلينا محرفًا بطريقة او بأخرى، أقصد، كيف نثق بالمادة وملحقاتها ورواتها ومراجعها دفعة واحدة دون أن يصيبنا الشك في شيء، أعني، حتى الكتب التي لم تحرف والتي مجموعها اليوم هو كتاب واحد -بحسب إيماني-، كيف نوقن اليوم بأننا نفهمها ؟ أعني اذا كان المفسرون مختلفين فيها منذ سنين وقرون فكيف نثق بإدراكنا التام لمعانيها ؟ كل الأفكار قد تكون حقيقية فعلا ولكن فهمنا لها قد لا يكون حقيقيًا، قد لا يكون صائبًا كل الصواب، ما أحاول قوله هو أني قد أصل إلى يقين تام بشيء ما ولكني لابد من أشك بشيء يخصه ولو كان على الأقل فهمي الشخصي له.

     إن الإنسان مكون من أفكار، الإنسان مجموعة أفكار، إن لم يكن الشك هو الرابط بينها أو محركها أو مكونها فما الإنسان ؟ الإنسان مبني على الشك، لمَ قد يوجد العقل إن كان الأساس هو اليقين ؟ إن العقل وجد للإدراك وللتمييز بين الحق والباطل، وإن قدرات الإنسان المحدودة تلزمه بإخضاع الأمور للتجربة ليستنتج منها ما هو حق وما هو الباطل، أي أن قدرته المحدودة ترغمه على الشك أولًا قبل إيمانه بشيء ما، ولا وجود للإدراك من دون الشك، ولا يمكن للعقل الوصول إلى اليقين بشيءٍ ما، ما لم يمر بالشك، لأن الشك هو أساس الحياة.

     الإنسان شقي بطبعه، وأسباب وجوده على رأسها الشقاء؛ فالاختبار شقاء، وانتظار النتيجة شقاء، والخوف من الموت شقاء، وانتظار الموت شقاء، والرغبة بالتمسك بالحياة -على الرغم من عدم وجود الخلود- شقاء، مرورك بعقبات كثيرة شقاء، تطورك لا يحصل دون شقاء، محاولات وصولك إلى ما ترغب به شقاء، لذا فكون الشك شقاءً هذا لا ينفي ضروريته في حياة كل إنسان، فلولم نمر بالشك لما أدركنا اليقين يومًا.

رأيان حول “[ الشك واليقين ]

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s