[ شخصٌ ]

     “شخص”.. رجل نحيل الساقين، كبير الكرش، متبلد التعابير إلا من عينين فضوليتين، لا يرتدي إلا اللون الأزرق بدرجاته كلها غير مهتم بتناسق لباسه، أشعث الشعر، يبقيه مبعثرًا ورطبًا كفرخ خرج للتو من بيضته، لا يسرحه أبدًا، كلما انتقد أحدهم مظهره، ردد: “الجمال جمال الروح”، بينما لا تجد في روحه جمالًا فهو لا يستطيع تحمل الاختلافات، ولا يكف عن شب الخلافات، ولا يحب الأطفال، وتشده الفضائح، ويصدر الإشاعات، ولا يغفر خطايا، ولا يمهل فرصًا، وكل الناس عنده سواسية، خبثاء، ووحده الطيب في هذه الدنيا.

     قناعات “شخص” ثابتة لا تتغير، متمسك بشدة بمبادئه، لا يصوب معتقداته فهو في اعتقاده لا يخطئ أبدًا، كالجبل لا تؤثر فيه الرياح. إن “شخص” لا يواكب الزمان، ولا يتكيف مع المكان، ولا يخضع أفكاره للتقييم الشخصي ولا لتقييم الآخرين، كلما انتقد أحدهم ذلك، ردد: “لستُ إمعة”، بينما يصف الذين يأبون الانصياع لآرائه وتقبل فكره بالرجعيين.

     أفكاره تقليدية جدا، محصورة ضمن إطار ممل، لا يستطيع التفكير خارج الصندوق، ويرفض كل حديث، يرفض كل مبدع، يرفض كل شيء عصري أو معاصر، يرفض كل محاولات التطوير، يمقت النهضة العمرانية، والتقدم التقني، كلما انتقد أحدهم هذا، ردد “شخص”: “أنا ذو معدن أصيل”، بينما تجده يبادر باقتناء أحدث هاتف نقال ولو اضطره ذلك إلى الاقتراض، ولا يوفر كل احتياجات المنزل إلا عن طريق تطبيقات هاتفه الذكي، وأول وجهاته في الخليج مثلًا وشرق آسيا هي الأبراج العالية التي لا يكف عن التقاط صور لها ومشاركتها الجميع على مواقع التواصل.

     متطرف في كل شيء لكنه يدعو بلسانه إلى الوسطية، متعصب لأي شيء لكنه يعادي كل متعصب لتيار لا ينتمي هو إليه، يسيء الظن في كل شيء وإن حُكم عليه سلبًا استنكر بسؤاله: “أتعلمون الغيب وما في الصدور؟”، لا يلتمس الأعذار أبدًا ولكنه كثير الاعتذار وإن كرر الأخطاء عشرات المرات.

     تناقش “شخص” في أي أمر فتجده يتحدث بلسان الإنسان الفريد الذي مات أشباهه ولن يلحقه مثيل، على الرغم من أنك تجده حولك أكثر من عدد مرات رؤيتك لنفسك في المرآة.

     إن “شخص” يشبه الطاووس في غروره، والأسد في استبداده، وكسلان الشجرة في بروده، والدب في سباته، والبومة في تربصها، والنمل في نمطيته، لكنه بشكل أكبر يشبه الإنسان، حسنًا إنه إنسان لكنه فعلًا يشبه الإنسان الشائع، أو هكذا أراه..

  • ما الإنسان الشائع ؟

     الإنسان الشائع هو إنسان اعتدنا مقابلته، وغالبًا ما ننتمي إليه إلى أن نرتقي إلى سلم التميز، فيوقن بعضنا وصوله إلى هذه المرحلة والبعض الآخر منا يدعي شيوعه أمام المتأخرين عنه، والذين يساوون أكبر نسبة سكانية ممكنة على هذه الأرض.

     تستطيع أن تميز الإنسان الشائع من مهاراته المتعددة والتي يمارسها بتلقائية تامة، فتجده مثلًا -إن كنت منتبهًا- يهمس في أذن زوجته في السوق وهو يقرص طفله وينظر إلى امرأة لا تشبه امرأته أبدًا في أي شيء، ويقبض بشده على محفظته خوفًا مما يجهله وتجهله، يفعل ذلك كله في لحظة واحدة، تجده أيضًا يكشف عن كرشه الضخمة في غرفة من منزله شبه فارغة من كل شيء إلا اللون السكري، أمام تلفاز، قد رفع صوته ليصدح معلق إحدى المباريات التي لا يشجع أي من فريقيها، وهو في الوقت ذاته يكتب شعرًا كله “قمر وقهوة” يظن أنه يتحدى به نزار قباني، وأكواب الشاي نصف الممتلئة أمامه قد بردت، أو قد تجده عند الإشارة لا يفكر إلا في شيء واحد: (كيف أقطع الإشارة قبل الجميع حتى وإن كنتُ خلفهم؟)، تجده عند المطعم يباشر بالطلب دون إلقاء تحية، وإن ابتسم غريب في وجهه نظر خلفه باحثًا عن غيره وكأنه لا يستحق “الصدقة”، وينادي بحقوق المرأة وهو يغار على اسم “أم عياله” من مسامع الغرباء، وعلى الرغم من أنه لا ينطق كلمات لغته بالطريقة السليمة إلا أنه ينقل ضعفه اللغوي إلى اللغات الأخرى مقحمًا إياها في حوار ثقافي.

     عندما يتحدث “شخص” عن إشارة المرور يتطرق إلى أسرة رئيس البلدية، وإن تحدث عن إعلان شفرة الحلاقة تطرق إلى رائحة زبون دائم في صالونه المفضل، وإن تحدث عن القيم الغذائية للبقدونس -مثلًا- تطرق إلى حجم ثالول أنف بائع دكان الحي، فهو لا يستطيع أن يجرد حديثه من الناس، وإن انعزل بنفسه في قهوة مزعجة مليئة بالذباب قال: “ما أجمل الانعزال عن الناس قليلًا، لا ينفك أحدهم عن أكل لحم الآخر.”

     إن “شخص” إنسان تقليدي، يدل على ذلك اعتقاده بأنه شخص متنور -بالمعنى الحقيقي للتنور- لكنك إن نطقت أمامه كلمة “تنوير” قال: “سحقًا للمتنورين!”، وهو شخص باعتقاده أنه متحرر -بالمعنى الحقيقي للتحرر- لكنك إن نطقت أمامه مصطلح “الحرية الفكرية” قال: “تبًّا للمتحررين!”، وهو شخص يدعي فهمه لكل شيء بلا استثناء، حتى الدين، لكنك إن ناقشته دينيا فيما يخالفك الرأي فيه قال: “لا تفتِ فيما تجهل!”، وإن ناقشته في شيء عام لا يفهمه قال: “كف عن الفلسفة!”، وإن استطعت إقناعه بخطئه وصوابك انشغل فجأة بأي شيء لم ينتبه إليه بسببك قائلًا: “أشغلتنا يا رجُل!”، وإن تحدثت له عن شخصيات لم يسمع بها قال: “يا لتفاهة المثقفين!”.

     “شخص” هو شخص لا بصمة إيجابية له وكم اعترض على انعدام نفعنا للآخرين، وهو لا يفكر إلا بنصف عقله في كل أموره فيفشل فيها واضعًا اللوم على جهل والديه، ولا يسعى إلا بنصف صبره في كل أموره فيفشل فيها واضعًا اللوم على ولاة الأمر وكبار المسؤولين.

     “شخص” يضع كل شيء من أملاكه في مقارنة مع نصيب الآخرين، وإن حصل على ما عندهم لم يكتفِ، وإن لم يحصل عليه قنط واستاء وتمنى الموت، ويضع وطنه في مقارنة مع أي دولة متقدمة عنه، وإن تقدمت بلده انتقد التقليد والسلطة الرابعة وقص عليك نظرية المؤامرة، وينادي باسم العفة وهو يقذف، وينادي باسم الطهارة وهو سيء الظن وبذيء اللسان، وينادي باسم الإحسان وهو لا يترقب إلا كلام الناس، وينادي باسم الإخلاص والتفاني وهو مرائي، وينادي باسم العدل وهو يبحث عن أسباب تشرّع له رِباه أو رشوته أو تحايله على القانون.

     “شخص” هو أكثر الكائنات تخلفًا، وربما أكثرها شرًّا، ولكنه مؤمن بأن باب التوبة مفتوح، وأن توحيده يكفيه، ويعتقد بأنه طيب النية، وما الأعمال إلا بالنيات؛ فكم مرة قابلت “شخص” أو بعضه؟ وماذا عن “إحداهن”؟

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s