ما زال الإنسان يحاول اختراع شيء يشبهه.
– بين العاشرتين

     في مقال سابق بعنوان “تساؤلات”، تحدثت عن محدودية فكر الإنسان، أنه ممنهج على شيء مهما حاول تخطيه تمامًا فسيفشل، وأخذت على سبيل المثال نظرية دارون كمثال على ذلك؛ عندما أراد داروين أن يعرف منشأ الإنسان بحث عن شبيه له ووجد القرد أقربهم، وكلما اكتشف علماء الآثار قرودًا أو حيوانات قديمة من نفس الفصيلة جعلوها دليلًا على صحة هذه النظرية، لا يستطيعون تخيل الإنسان مخلوقًا من العدم، لابد من وجود ما يشبهه وقد انحدر منه، كذلك عندما يتخيلون الإنسان فيما بعد، يتخيلونه في أقصى تطوره إنسانًا أيضًا، لكنه مزود في جسمه باختراعات الكترونية كهربائية رقمية مطورة، كشريحة ذاكرة أو غيرها، وعندما فكروا بصنع روبوت كان الشكل الرئيسي يشبه الإنسان، حتى وإن كان الرجل الآلي مختلف عن الإنسان في تفاصيل مظهره إلا أنه يشبهه من حيث عدد الأطراف وغيرها  من النقاط الأساسية، واليوم طور العلم هذه الآلة حتى صرنا نكاد ألا نميز بينها وبين الإنسان العادي في المظهر، وهم في طور جعل هذا الاختراع أقرب ما يكون إلى الإنسان حتى في قدراته لينوب عن المورد البشري.

     وإن نظرنا إلى عدة خدمات ذكية تخدم البشرية لوجدنا الخرائط تدلك على المكان بصوت إنسان، والهاتف تأمره بمهام وتسأله عن أمور ويجيبك وكأنه إنسان، والسيارات اليوم كذلك تستطيع التحاور معها، وإن كان هذا النوع من الحوار محدود، إلا أن الإنسان فعليا لا يمكنه الخروج هنا عن طبيعته. 

     ليس على صعيد العلم الحيوي والتقني فحسب بل حتى على صعيد الفلسفة، والدين وعلم الفضاء. تجد الإنسان يفكر ضمن حدود الإنسان؛ على سبيل المثال، آلهة الإغريق صوروها بأجساد بشر وإن كان لبعضها أجنحة، صورة الملائكة كذلك بشرية في أذهان الكثير، والبعض من النصارى يتقبلون فكرة أن الإله قد يكون له شكل إنسان،  أو أن ابن الإله يرث شكله ومعظم صفاته من الجينات البشرية من أمه (العذراء)، كذلك في فلسفة الكائنات الفضائية غالبًا ما تكون صورتها -أو صورة سكان الكواكب الأخرى- كصورة الإنسان.

     حسنًا قد تنكر ذلك، ولكن كم عين للكائن الذي تخيلت الآن على أنه كائن فضائي ؟ إن لم تكن عينان فهل على الأقل احتوت العين على جفن واحد ؟ ألا ترمش العين ؟ هل للكائن مشاعر ؟ هل ينوي ويعتقد ؟ إن كان يبكي فهل تدمع عينه ؟ إن كان يضحك فهل يصدر صوتًا أو يفتح فهمه إن كان له فمٌ ؟ كم عدد أطرافه العلوية والسفلية ؟ هل يمسك الأشياء بالعلوية أم السفلية ؟ أين يقع رأسه ؟ أين موقع فمه، لو كان يسمع بعضو يقابله في الإنسان (الأذن) فكم أذنًا تخيلت ؟

     هذا ما عنيته، لم تستطع أن تخرج تمامًا من شكلك، لا تستطيع توقع وجود كائن عاقل وقادر لا يشبهك على الأقل في مظهره، لذا فحتى الخالق غالبًا ما يصعب على الكثير تخيل أنه لم يُخلق وأنه لن يبيد أبدًا. 

     ما زلت أصر على فكرتي تلك، إن الإنسان لا يكف عن محاولة خلق/ اختراع/ اكتشاف شيء يشبهه، بقصد ودون قصد، فمهما تشعبنا نبقى ضمن إيطار أشباهنا.