تظن أحيانًا أن نفسك تتعرى أمامك من كل ما يخفيها عنك فتحسب مشاعرك هي فقط ما تظهر لك في الحين، ولكن موقفًا واحدًا وفي لحظة تزدحم بين اللحظات تخرج من نفسك الظاهرة نفسًا باطنة هي أضعف أو أقوى أو أرق أو أقسى.. تملؤها مشاعر غابت لأيام وأسابيع وشهور، حتى ظننت أنك لا تمت لها بصلة مجددا. 

     كنت أشتاق كثيرًا إلى الماضي وذويه، إلى التفاصيل والأماكن والأشخاص والمواقف، كنت أتقوقع بحزن شديد لأعوام كلما أصابني الحنين.. وفي أربعة فصول، كنت منها الصيف والشتاء والخريف والربيع، نضجت مشاعري حتى صارت كالثمرة القاسية التي تظن أنها ما إن تقطف وتقطع حتى تنتهي وتفسد، كنت أحسبني قويت وأصبحت أذكى عاطفيا مما مضى ولكتي وجدت لسان حالي يفتقد الإنسانية ولا يحاكي إلا جمادًا مجردا من كل معاني الحياة أو كائنًا حيا نمطيا، لا يعرف التنوع ولا الانفتاح ولا الحرية وآلمني ذلك حقا وآسفني حالي وعلمت اليوم أن ذلك الأسف لم يكن إلا شكلًا من أشكال الإنسانية، وأني بدأت أسترجع الحياة التي كانت تدب في قلبي، ولكنها لن تتعبه بعد الآن ما دام النضج قد أخذ من الوقت ما يكفي.

     لمحت عن بعدٍ ملامح الحزن والوهن على جدتي التي لا أظنها إلا تشكو الحيرة بين أراضي أبنائها وأبنائهم وتشكو صداعًا قويا مستجيبًا لقساوة برد الساحل الشرقي القوي، لا تحتمله عظامها، وصراخ حفيدها الأصغر الذي لم يهدأ إلا بين ذراعيها نائمًا.. من تلك الصورة شهدت ملامح الألم الذي حاولَت إخفائه في سبيل الاستمتاع لحظات السعادة وحتى لا يحزن من حولها من أجلها.. فاشتقت إلى تأمل تجاعيد وجهها عن كثب وإلى ملامحها وصوتها وحضنها ودعاباتها وتذمرها، وبكيت.. أجل لقد اشتقت وبكيت، فعلمت أني ما أزال على قيد الحياة.

 17 كانون الأول 2016