[ مصدر غير موثوق ]

     من المعروف أن الترجمة مظهرٌ من مظاهر تحضر الشعوب، والاختلاف الثقافي بأنواعه من مظاهر الحضارة الإنسانية، وما أؤمن به هو أن المترجم الذي لا يتقبل اختلاف أفكار المؤلفين -الذين يترجم لهم نصوصهم- عن أفكاره الخاص فليس إلا ثغرة حضارية، وطفرة تاريخية ضارة.
     إنه لمن المؤسف أحيانًا أن يصيغ بعض المترجمين ترجماتهم بما يتناسب مع اعتقاداتهم واعتقادات الجمهور المتلقي، دون أن يأبهوا بحقوق المؤلف ودون أن يحترموا فكره وإيمانه ومعتقداته أو على الأقل المعنى الذي يود إيصاله للقارئ أو المشاهد أو السامع. أي أن هذه الفئة من المترجمين تحرص حرصًا لا جدوى منه فتقدم به اختيار الأفكار المقبولة شخصيا واجتماعيًّا على الأمانة المهنية وحفظ الحقوق الفكرية.
     من المقبول جدا أن يراعي المترجم حساسية المتلقي تجاه الألفاظ البذيئة فيهذب ألفاظ النص الأصلي، لا أجد في ذلك عيبًا على الرغم من وجود علامة ترقيم تفيد حذف الكلمة تشبه في ذلك الصوت الحاجب للألفاظ البذيئة في الأعمال المصورة أو الأغاني المسجلة. لكن انتقادي للمترجم الذي يتعمد إخفاء معتقد المؤلف وتحوير معانيه إلى ما يناسب معتقدات الفئة المتلقية أو ربما معتقداته الشخصية كمترجم.
     في أحد البرامج التلفزيونية الكوميدية تتساءل شخصية مسيحية ملتزمة -باللغة الإنجليزية- عما إذا كان التحليق بالمنطاد في السماء يوصلها إلى الجنة، تُرجمت عبارتها إلى العربية هكذا: “هل من الممكن أن توصلنا السماء إلى السماء؟” فكانت نتيجة حرص المترجم سيئة جدًّا شكلًا ومضمونًا.
     وفي بعض الأعمال الأخرى كالكتب بصفة عامة وكتب المتنور “أوشو” بصفة خاصة، تجد المترجم العربي الذي يؤمن بأن اسم إلهه “الله”، يغير لفظ “الإله” إلى لفظ “الله” -بطريقة أجدها أنانية جدا وغير ذكية أبدًا- رغم أن المؤلفين -إن كانوا متدينين- ربما هندوس أو مجوس أو سيخيون أو حتى يعبدون إلهة أنثى، ومن يقرأ لأوشو -مثلًا- ممن يقدسون الله يعي تمامًا أن هذا الاستبدال لا يحفظ الدين من أن يجرح بل إنه يسيء إلى قدسية الله هنا.
     لا أعتقد أن أحدًا يخفى عليه اليوم ما وصلنا إليه -كمجتمعات- من الوعي العالي والحرية في القدرة على اختيار معتقداتنا وأفكارنا دون تدخل الغير، والحفاظ عليها دون تأثير من الآخرين، فإن أراد اليوم مؤمن أن يلحد فسيلحد بإقتناع تام أنه اختار الصواب، وإن أراد ملحد أن يؤمن فسيؤمن أيضًا باقتناع تام أنه اختار الصواب، فلا حاجة للمترجم من أن يخشى على أحدهما من أن ينحرف عن سراط مستقيم.
     ربما في السياسة قد يحتال المترجم على الأحزاب الأخرى بالتحريف لمصالح سياسية، لكن تحريف معاني النصوص العلمية الطبيعية والإنسانية لتناسب المتلقي وما يعتقده ليس إلا خطأ، وربما دل على رجعية المترجم وتحجره الفكري وتطرفه أحيانًا، كما أن نصوص الأدب بأنواعه بمثابة كنز ثقافي لكل شعب وهوية له وللفرد الواحد المؤلف للنتاج الأدبي، لذا لا يحق أبدًا للمترجم العبث في معانيها.
     إن العمل أمانة، وإن الترجمة من أكثر الأعمال التي تتطلب من صاحبها أن يكون أمينًا، فما الترجمة إلا طريقة لإيصال الفكرة للمتلقي من لغة لا يفهمها، أي أن المترجم غالبا ما يكون المصدر الوحيد لإدراك فكرة ما أو إيصال رسالة ما أو معلومة ما، فإن لم تكن مترجمًا أمينًا فأنت مصدر غير موثوق.
     إن كنتَ مترجمًا لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية الأمانة المهنية في ترجمته ولا يستطيع حفظ الحقوق الفكرية للمؤلف فاترك الترجمة وابحث عن حرفة أخرى وتخصص آخر يتطلب الحيادية والدبلوماسية ولا يحتاج إلى الموضوعية والشجاعة.

رأيان حول “[ مصدر غير موثوق ]

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s