[ اليوم الأول ]

عندما تجتمع رحمة الله بسخرية القدر..

اليوم هو ذكرى وفاة عمي الأولى، في مثل هذا اليوم بعد أن غربت شمس الرياض من السنة الماضية، رحل حبيبي ولم نكن قد أكملنا يومًا واحدًا بعد آخر اجتماع به.

أذكر جيدا تفاصيل تلقي الخبر المفجع، تلقيته على بعد بضعة أمتار من حيث أجلس الآن، وأين أنا؟ أنا على مقاعد الانتظار في مقر عملي الجديد، في يومي الأول.

كان من المفترض أن أبدأ منذ أربعة أيام، أي في أول أيام السنة الجديدة لكن الله شاء أن أبدأ اليوم. أذكر هنا أني كنت على وشك حضور مناسبة سعيدة لصديقة قديمة هذه الليلة، ولكن عمي لم يغب عن بالي، لست أؤيد تمييز أيام ذكرى وفاة الأشخاص، ولكنني وجدته من غير العقل ولا من الإنسانية ولا من المحبة والتقدير أن أرقص في الذكرى الأولى من وفاة عمي الأكبر، صديقي الراحل.

لم أكن أعلم ما الحل، أن أتبع قلبي أو عقلي، هل ألبي الدعوة -فقد اشتقت إلى صديقتي- أم أعترف لها بسبب عدم تقبلي للأمر؟ لكن الرحيم وحده أكرمني برحمته يومها وشاء أن يتأخر أول يوم عمل لي إلى هذا اليوم.

لم أنم جيدا، فلا شيء يوقف الأرق عندما أقلق، خاصة عندما تقلقني البدايات تحديدًا.

  • ما مشكلتي الأبدية؟
  • الخطوة الأولى.

أعلم أن الكثير على هذه الأرض قد يرون ذلك تشاؤمًا، ولكني أراه شفافية، الخطوة الأولى تؤرقني في معظم الأحيان.

كان عليَّ أن أصحو مبكرا وآتي مبكرًا كي أختبر حركة المرور في هذه الساعة من كل يوم عمل، صحيح أنه مقر عملي السابق ذاته ولكن التوقيت متقدم بساعة، وبصراحة تامة، لم يكن يومًا مناسبًا لاختبار الطريق لأن اليوم يوم إجازة مدرسية لن تنتهي قبل أسبوع من الآن كما أنه يوم ماطر يمنع الناس من مغادرة منازلهم إلى وسط المدينة.

بعد تكرر حوادث سيول الرياض وجدة في العقد الأخير أصبح الناس، معظم الناس، يخشون الأمطار ويلزمون منازلهم قدر الإمكان، لم يعد تأمل المطر يمتعهم إلا من خلف النوافذ.

فقد الكثير ذويهم، أهليهم، أصدقاءهم، جيرانهم، كم من فتاة فقدت حبيبا لها كانت تخفيه عن الأنظار والمسامع، وكم من شاب فقد من كان يرى فيها مستقبله، بل أني بنفسي سمعت أن قطنا غرق في سيل الأمطار.

إن الموت لموجع، لكن لولاه لما استمتع أحد بالحياة، لكي تستمتع بالحياة عليك إدراك حقيقة الموت، هذا جزء مهم من صفقة الاستمرار على قيد الحياة والاستمتاع بها.

أصل اليوم قبل أهم أفراد الشركة، كلهم قد اعتادوا على القدوم إلى العمل، وجميعهم على علاقة جيدة بصاحب العمل، أما أنا فتحت المراقبة، أعني، حرفيا، فالقمرات تحيط بي من كل اتجاه، بل أني في مرة سابقة قال لي موظف الاستقبال ليؤكد وجود المدير: “إنه يراك الآن من حاسوبه”. بربكم، من منا يعيش حريته؟ إن لم نكن في كل حين مقيدين ومراقبين فإننا على الأقل بين الناس كذلك، ألسنا كذلك؟

ها أنا ذا أنتظر بدء العمل، ما زلت والعمال وحدنا، ومن صرت بديلة له لم يستقبلني بحفاوة كما كنت بجلالي أتوقع، أعني منطقيًّا، من يسعد بحضور من يحل مكانه؟

المضحك المبكي أنه قد أغلق عليه مكتبي، أعني مكتبه السابق، وتركني في الخارج أنتظر على الرغم من أن عليه تدريبي اليوم.

  • أول درس أتعلمه من العمل الآن: الصبر.
  • أول توبيخ: لا تتعجلي في الحكم على الآخرين.

على “طاري” الصبر، لمَ يقال إنه مفتاح الفرج، ألن يأتي الفرج في وقته إن كُتب وقُدّر لنا صبرنا أم لم نصبر؟ وهل لنا إلا الصبر عند انتظار الفرج؟ إنه ليس خيارًا بل فرضٌ، وما نحن إلا ملزومون به.

أجلس هنا على مقعد الانتظار، وباب مكتبي الجديد موصد في وجهي، ولكن: الصبر مفتاحه. أسمع جيدا قوة المطر من بعيد، أسمع جيدا صوت معالج حاسوب مكتبي، وصوت سخانة الماء، وصوت الأقدام خارج الشركة، أسمع زميل عمل وهو يحتسي كوب الشاي، أظنه شايًا، لأنه يحتسيه بسرعة مصدرًا فحيحًا في كل مرة يبتلع فيها رشفة منه، يبدو لطيفًا جدا، ولكنه بدأ للتو بالعمل هنا، وتظهر على وجهه تعابير الخوف، الخوف من الخطأ والنقد والطرد، لكني أراه سيبقى هنا بعدي لوقت طويل، حدسي يخبرني بذلك.. ها قد مضت ربع ساعة ولم يأتِ أحد بعد، وما زلت أكتب والحماسة في انطفاء تدريجي. ولا أقدام تقترب من الباب، سأكمل ساعة على هذا المقعد منتظرةً.

هاهي الأصوات تقترب، أظنهما فردين على أقل تقدير، واحد، اثنان، ثلاثة، هيا.. واحد، اثنان، ثلاثة.. الآن.. حسنًا واحد، اثنان، ثلاثة، لا أحد.. أخطأت.. لا لم أخطئ ولكني أجهل هوية هذا الرجل المسن، أشعر بأني سأبدأ العمل خلال دقائق.. إلى لقاء قريب!

‏5 يناير 2020م

رأي واحد حول “[ اليوم الأول ]

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s