[ تفاحة وأخواتُها ]

أريد أن أبدأ كتابة شيء، ينبع من أعماقي، شيء أستطيع الشعور به حقًّا، أو بمعنى آخر: شيء أشعر به قبل كتابته، وأثناءها وبعد الانتهاء منها. أكتب ما يجول في خاطري كما هو دون زيف. قد أجعله يرتدي حللًا جميلة، هندامًا أنيقًا، ولكني لا أغير هويته. أود ارتجال أفكاري كما هي، على الرغم من أن تفسير الفكرة قد يحتاج أحيانًا إلى تعقيدها بعض الشيء، وأود سرد مشاعري كما هي، على الرغم من أن الشعور ينبغي أن نبالغ في وصفه ليتضح.. لا لغرض، ولكني أشعر بالمعاني في داخلي سجينةً، تنتظر قوالبَ تتشكل فيها فتتحرر، تفك قيدي عنها.. ربما لا يهمني أن يكون لها مستقبلٌ ولكنّ الأهم أن أخلقها في الوجود، أن تكون موجودة، موجودة وحسب، طائرة كانت أم متجذرة الأصول، خفيفة كانت أم ثقيلة، لكنها موجودة، قد تتصل بأي شيء، أي شيء إلا العدم.

إن الكلمات بالنسبة إلي، كلماتي أنا، المعبرة عن مشاعري أنا وأفكاري أنا، هي لُبي، لبُّ قلبي، لبُّ جسدي، لبُّ كائني أنا. تخيلني كثمرة، كتفاحة حمراء أو أيًا كان لونها. تخيل أن تفرغ ما بي تمامًا دفعةً واحدة حتى لا يبقى مني إلا قشوري الملونة، لن أكون عندها ثمرة، بل مجرد قشرة، أما أنا فلستُ أرغب بإخراج الكلمات هكذا بقدر ما أود أن أقشر هذه الثمرة لأخرج التفاح بأكمله، يبدو واضحًا متجردًا ولكنه يمتلئ بالذرات، بالجزيئات التي تكونه.. على الرغم من أن لا شيء يحجب بين عينك وقلب هذه الثمرة إلا أنك لا تستطيع الوصول إلى بذورها دون قطمها أو قطعها إلى نصفين، أما أنا، فكما قلت، أود أن أخلق كلماتي في الوجود، ولا آبه بالمتلقي، فالمتلقي لن يستطيع معرفة طعم الثمرة، ولا تفاصيلها، ولا رائحتها، يكفيه أن ينظر إليها ويفهمها ويتخيلها كيفما شاء، تلك مهمته، ومهمتي أن أظهر كلماتي كيفما شئت.

لا شيء يصعب على الإنسان أكثر من أن يشعر تمامًا بالطرف الآخر، هناك دائمًا أجزاء من عشرة -على الأقل- من الاختلاف، يستحيل أن تشعر تمامًا بما يشعر به الآخر، من فرد لفرد آخر، ويصعب الأمر أكثر كلما زاد عدد الأفراد المقارنة بأفراد أُخَر، فلا تستطيع -أدبًا- مجموعة من أفراد أن تشعر تمامًا كما يشعر أفراد مجموعة أخرى، ولو كبرت العينة إلى الجنس الواحد؛ فكما يردد الرجال:” يستحيل أن نفهم النساء”، يرددن: ” يستحيل أن يشعر الرجال بما نشعر به”.

وإن كان يستحيل على الرجال أن يشعروا بالنساء، جنسًا إلى جنس، فيسهل تمامًا أن تدرك أن الرجل لا يشعر بالمرأة تمامًا مهما كانا مقربَين، وتحاول المرأة باستمرار أن تفهم الرجل، تفهم عقله، تفهم فكره، وتبقى هناك مساحة مجهولة غامضة في عقله يحتفظ بها لا تستطيع الوصول إليها، وإن جعلت تلك النقطة بالذات مصدر فضولها الرئيسي وشغلها الشاغل لأفنت حياتها في هباء منثور وهراءٍ لا حِل منه ولا حَل له.

إن الرجل ليظهر غروره وأنانيته في تحفظه الشديد، في مساحته الخاصة، في حقه الإنساني الذي غالبًا ما يكون بالنسبة للمرأة متجردًّا من الإنسانية، بينما يكون غرورها وتكون أنانيتها في طمعها، طمعها بالمزيد، ربما طمعها بالمزيد منه والذي تعده حقًّا إنسانيًّا، في حين أن الرجل قد يراه أمرًا يجردها من كرامتها كإنسانة.

ومفهوم الحرية بينهما قد يختلف تمامًا، فمهما اتفقا على أن اللوحة جميلة، ومهما اتفقا على ماهية عناصرها المُجّرَّدة، وما يناسبها من برواز، إلا أنهما يختلفان على الشعور تجاهها، يختلفان في تفسير معناها، وتحليلها السيكولوجي، فيعبر كل منهما عما يلامس طبيعته، وإن تشابهت هذه الطبيعة (الجنس) بين الأفراد وتشابهت أنفسهم تظل دائمًا غير متطابقة.

الموضوع هنا ليس حصرًا على الشريكين، وليس حصرًا في الأساس على المقارنة بين الذكر والأنثى، ولكنها البداية، الاختلاف الأول بين البشر منذ الخلق والذي مهما بدا يتلاشى تبقى منه أجزاء لا يمكننا إلا ملاحظتها، ثم يكون هناك الاختلاف بين الإنسان وأخيه من الجنس الواحد، ثم الاختلاف الغريب بين التوأمين والذي يثبت إعجاز أن الجينات وإن تطابقت إلا أنها تختلف، وأن الظروف البيئية ومواقع النجوم وغيرها من العوامل الكونية مهما تطابقت ظَلَّ تأثيرها مختلف حتى بين الإنسان وتوأمه، ثم تكبر الدائرة وتتعدد الأمثلة، والحقيقة الواحدة أن الاختلاف دائمًا موجود بين الجميع بلا استثناء، وأن الفهم التام مستحيل تمامًا.

قد تتساءل عن سر التفاهم ما دام الفهم التام مستحيلًا، لكنك لو تفكرت في اللفظين لوجدتهما مختلفين، فلو كان التفاهم فهمًا لما أسميناه “تفاهمًا”، فالتفاهم لغةً على وزن تفاعُل من تفاعَل، وهو “مَزيدٌ” يفيد المشاركة، أن أنه يتطلب وجود الطرفين لوقوعه، حيث يتنازل كل منهما عن جزء من فكرته أو رد فعله في سبيل الوصول إلى حل وسط متفق عليه.. ويحدث الأمر معظم الوقت لا إراديًّا ودون سابق تخطيط، دون بذل أي جهد وعقد أي اجتماعٍ، إنما الأمر فطرة لولا أن الإنسان فُطرَ عليها لما حل بعض السلام بين الجميع ولما استطعنا البقاء على هذه الأرض حتى اليوم في جماعات متعايشة إلى أبعد حد، كل ذلك بفضل التفاهم، أما الفهم فيستحيل تمامه.

إن العلاقات التي تتعقد بسبب عدم فهم طرف للطرف الآخر هي علاقات لم تُبنَ على أساس صحيح، أطرافها لم تدرك أن العنصرين اللذين ينبغي وجودهما في أي علاقة يُراد دوامها لمصلحة ما -عاطفية أو مادية أو أيًّا كان نوعها- هما “إدراك حتمية الاختلاف وتقبله”، أما الاختلاف فصحيّ تمامًا؛ وجوده محرّك للحياة، وانعدامه رتابة.. والرتابة أخت الموت.

إن سادت ثقافة تقبّل الاختلاف ستسود على إثرها ثقافات أخرى تابعة: احترام الاختلاف، البحث عن مواطن قوة الاختلاف، الانتفاع من الاختلاف، تقدير الاختلاف… ولستُ أقصد الاختلاف فكريًّا فقط. إن احترام وتقبل اختلاف اللون والأديان والاعتقادات الفلسفية والتخصصات العلمية والوظائف يؤثر على احترام تنوع الأذواق، ولأن تدريب النفس على تقبل ما سلف ذكره صعبٌ فإن أسهل الحلول أحيانًا أن نبدأ بالخطوة الأخيرة، أي أن نبدأ باحترام الأذواق، والذي بدوره يقودنا إلى تقبل أي اختلاف آخر بين الواحد منا والآخرين.

قد يبدو هذا الأمر مثاليًّا إلى حد ما ولكن الحقيقة هي أنه لا يمكن أن يتغير العالم كله، لا يمكن أن تتقبل المجتمعات كلها المجتمعات الأخرى ولا حتى أفراد المجتمع الواحد نفسه، فالثقافة الفكرية هذه -وأي تطور فكري آخر- تتكئ على أكتاف كثيرة، فنوع سياسة الدولة، ونوع تشريعات الدين المُعتَنَق، ودرجة التعلم، والطبقة الاقتصادية وغيرها من العوامل تدخل جميعها في تكوين مدى قدرة كل مجتمع -وكل فرد- على تقبل الآخر -أو تطويره لفكرة ما- ورغم وجود من قد ينكر ما سأذكره إلا أني أثق بواقعه، وهو أن هذه العوامل يتعدى تأثيرها ذلك إلى أن تؤثر في مدى تمسك المجتمعات وأفرادها حتى بطبيعتهم الإنسانية.

ولأن الأمر معقد وبديهي في الوقت ذاته إلى هذه الدرجة، يواجه الفنان -أيًّا كان فنه- صعوبات عدة في الوصول إلى ذائقة الآخرين بمجرد أن يضع في اعتباره ضرورة إعجاب الآخرين بما ينتج من أعمال، فيتأخر الأديب، ويفشل المخرج، ويُنسى المغنّي، ويُحبط الرسّام، فقط لأنهم لم يخرجوا الفكرة والشعور بالطريقة التي يرونها هم مناسبة، بل بالطريقة التي برأيهم: قد تعجب وتناسب الآخرين.

أحيانًا ما تكون أبسط الأمور التي يتخذها الفنان درعًا له -وإن انتهج ما رآه مناسبًا غير مكترث لآراء الآخرين وتقبلهم من عدمه- هي الحياد، فيكون محايدًا غير مصنفًا نفسه تحت أي ميولٍ، وغير مبدٍ رأيه حول أي قضية كبيرة، وهذا ما شاع في الآونة الأخيرة مع التقدم التقني ومع تطور الوسائل الإعلامية، في حين أن الفنان القديم، الرسام والأديب والمغني والممثل كان أجرأ، كان أقرب إلى نفسه من الآخرين، كان يترك الأمر لريشته وآلته وقلمه، ويطلق العنان لنفسه، ويوضح مواقفه من أي شيء بكل شفافية لمن يسأله عنها، لأنه لم يكن يشعر أنه يعيش على مسرح وأن كل العالم لجنة تحكيم تنتظر منه الوقوع في خطأ المعية والضدية، وكان يصل إلى حيث تستحق أصالته حتى بعد مماته، أما اليوم وفي ظل هذه الامكانية الكبيرة للوصول إلى العالم بأسره تقيّد هذه اللجنة أطرافه الأربعة فيكون رهن إشارة الجميع فقط ليكون مقبولًا.

قد أبدو وكأني أعمم الأمر، أو أصفه مجازيًّا بالحتمية، إلا أني لا أجزم إلا بوجوده عند الغالبية ممن يرغبون بالوصول إلى الآخرين، وإن اختلفت نسبته عند كل منهم إلا أن هذا الخوف – المقصود وغير المقصود- ما يزال مُمارَسًا ومتفشيًا بدرجة كبيرة تعيق تقدم الفنان وصاحب الرأي الواحد، وبالتالي تؤخر تقدم المجتمع الواحد.. فما الحل؟ الحل أن تبدأ بتقبل الآخرين بالسماح لهم باتخاذ مواقف مختلفة عنك، واحترام تعبيرهم عن موافقتهم ومعارضتهم، لتستحق في المقابل تقبلهم وسماحهم باتخاذك مواقف مختلفة عنهم واحترامهم لتعبيرك عن موافقتك ومعارضتك، ولتستطيع الاستمتاع بذوقهم ونتاجهم، فيستمتعون بذائقتك وما تنتج.

سأتقدم الطابور، ولا تتبعني، بل تقدم طابورك الخاص، دعني أراك بجانبي أو في الجهة التي تقابلني، دعني أراك بوضوح، وأسمعك بوضوح وسأحدثك بوضوح، تحدث كيفما شئت وبما تشاء واسمع مني ما أشاءُ وكيفما كان، أطلعني على ما تريد من جعبتك وهاك ما أختارُ مشاركتك إياه، سأكون أنا دون أن تقارنني بغيري أو بنفسك وكُن أنتَ وسأُقدّرُكَ لنفسك، لنستمتع بوجودنا، ونتلذذ باختلافنا، ونتطور بتقبلنا، ونُديم سَرِيّتي وسَرِيّتك بالتفاهم.

4 رأي حول “[ تفاحة وأخواتُها ]

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s