بقدر ما يكون الإنسان في طبيعته حرا – بالمعنى الشائع- يظل كائنا تقيده عناصر كثيرة مكملة لوجوده في هذا الكون.

خُلق الإنسان حرا غير مملوكا، وامتلاكه كان حالة خاصة مستثناة من طبيعة ما فطر عليه، فقد فُطر ليكون حرا، هذه نظرية ولا تحتاج لتجارب أو براهين تحولها من فرضية إلى نظرية، لكن حرية الإنسان معقدة، معقدة جدا، مليئة بالقيود. أفعاله ليست محصنة من المؤثرات، ولم يختر أفكاره باستقلالية تامة، وحتى مشاعره لم يخترها بإرادة مطلقة وعناية تامة دون تدخل أطراف أخرى، وقدره مقيد على الأقل بظهور الناس في حياته واختفائهم منها. إذا فالمفهوم الحقيقي للحرية لا ينطبق على الإنسان عندما نقول عنه إنه “وُلد حرا”، ولا أحد يستطيع إعطائه الحق التام في أن يكون حرًّا “ككائن إنسان بشري عاقل ومنتج ومعمّر ومستعمر وخلاق”.

إن الحرية المقصودةَ عامةً -بالرغم من تفاوت نسبها بحسب الناس ومفاهيمهم وآرائهم- تصب كلها داخل إطار ضيق، ضيق جدا، وإن كان إطار الحرية ضيقا فهذا تناقضا للمعنى العام للحرية، إذ إن الحصر والتحديد والتقليل والتمييز إخوان القيود، والقيود أعداء الحرية لغة.

في مقال سابق من كتابي قلت إن قرارات الإنسان تحددها العديد من الأطراف. صحيح أن أرائي اليوم تتعارض مع نصف ما كتبته في ذاك المقال، لكني ما زلت أرى قرارات الإنسان -فعلا- تحكمها عدة عوامل داخلية (أي: فيه ويمتلكها وتنتمي إليه)، وخارجية (أي: منوطة بالحال التي كان عليها بتفاصيلها من عناصر حسية ومعنوية)، وهذه نقطة أولى.

أما النقطة الثانية في الحرية فهي أننا لا نختلف على اختلافنا في تحديد ملامح استحقاقية الإنسان للحرية؛ البعض يرى أن لها حدودا تؤخذ كمسلمات فلا يُمس الدين ولا تُرتكب محظوراته أو لا تُمس الدولة ولا تُخالف قوانينها، أو أن حريته تقف عند الآخرين فكل ما يؤذيهم أو “يؤثر على حريتهم المستقلة عنه تماما” هو ممنوع منعًا باتا، والبعض يرى أن من حرية الإنسان أن يختار ما إذا يحترم حرية الآخرين أو لا يحترمها وأن هذا أيضا يدخل ضمن حرية اختياره.

بعيدا عن هاتين النقطتين، إن أكثر إنسانا حرا على وجه المعمورة هو في الأصل مقيد بالقوانين الكونية، بأنواعها، والجميع يخضع لها وبنسب غير متفاوتة، إن مقدار الحرية -مهما بدت مطلقة- تحدها عناصر كونية.

أحد تلك القيود هي الزمن. إن الزمن حاكم حازم لا يتزعزع عن قراراته، ولا مفر من حكمه، قد تتحايل عليه، وقد تتفاهم معه، وقد تعقد صلحا وعقودا مؤقتة بينك وبينه لكنك لا تملك حق التعدي عليه أو تجاهله. إنك مرغم على مسايرته بطريقة لا تتعارض مع أهدافك ورغباتك واختياراتك في الحياة. يشبه الزمن السجن التأديبي ولكنه سجنا دائما حتى الممات، وهو ليس بشعا بل هو خير معلم، ففي كل يوم منه تتعايش فيه معه يعلمك مزيدا من الانضباط -إن كنت حقا تنوي التعلم منه- وإلا فستكون عاقبتك غير محمودة ولا محسودة.

أما القيد الثاني فهو القدرات الإنسانية. إن قدرات الإنسان محدودة بلا شك، محدودة في حدود ” الطبيعي”، ولا شك في أن الكثيرين لا يكتشفون كل قدراتهم ولا يستفيدون منها على أكمل وجه ولا يثقون فيها، وهناك الكثير مما لم ينتبهوا إليه في أنفسهم، وربما أيضا تكون هناك قدرات لم يكتشفها العلم بعد في البشرية، لكنها بصفة عامة -مقارنة بعظمة كل شيء آخر في الكون أو على الأقل مقارنة بما قد يخلقه خيال الإنسان- هي قدرات محدودة. إن الجميل في هذا القيد أنه يحفز الإنسان للابتكار، لتسهيل الحصول على حياة أقرب لخياله من الواقع المنقض، إن محدودية القدرات أهم حافز مطور للحضارة البشرية والعلم، فحين لم يستطع الإنسان الطيران اخترع الطائرة، وعندما أدرك أنه لا يستطيع سباحةً قطع مسافات طويلة في البحار والمحيطات مواجها كل التقلبات التي قد تعترض طريقه، صنع القوارب وأخذ يطورها حتى صنع منها منتجعات ووسائل ترفيهية مذهلة! ولعجزه عن السيطرة على انتشار الأمراض المعدية أو حالات التشوهات الخلقية -مثلا- اخترع اللقاح ليحد من تفاقم المشكلة الأولى وطور علمه ليتحكم بالجينات متفاديًا المشكلة الثانية، ومثل هذه الأمثلة لا تحصى.

والقيد الثالث هو المساحة أو البيئة، بيئة الإنسان السكنية محدودة، ولست أتحدث عن منزله أو قريته أو موطنه، بل أعني الأرض واليابسة، فلكي يستطيع أن يمارس حريته “المؤطرة والمزعومة” ينبغي عليه أن يعيشها حيث يستطيع تنفس خليط غازات مناسبًا بتركيباته ونسب عناصره، وحيث يتقبل جسده درجة الحرارة المحيطة، وحيث يجد تناغما مع باقي المخلوقات ليتغذى عليها ولتحافظ على غذائه وسلامته؛ يحتاج أن يغذي جسده بمعادن وفيتامينات معينة، لذا يحرص على توفر النبتة المعينة، والتي ينبغي أن يحميها من كائنات أخرى تتغذى عليها وتتلفها، فيحرص على عدم انقراض كائنات تلتهم تلك الكائنات التي قد تقضي على النبتة التي يحتاج إلى مكوناتها الغذائية! وهو لشيء من شأنه أن يعلم الإنسان الحفاظ على ممتلكاته وما عنده وأن يسعى للحصول على ما يحتاج وأن يحترم الحدود -على الأقل تلك التي يضعها هو لنفسه.

وهناك قيد رابع وهو عمره المستقل، لا أقصد العمر الزمني بل أقصد حياته المستقلة المبدوءة بولادة والمنتهية بوفاة، استقلالية البداية والنهاية وحدها تعلمه أنه مستقل في حياته، أن له مسؤولياته التي عليه أن يتحملها وحده في معظم أوقاته حتى وإن أعانه آخرون، بداية من أن يخطو صغيرًا، وحتى أن يختار الاستمرار على قيد الحياة إلى أن يختار موتُه وجهًا أم الانتحار، واحسب -بينهما- كمية المسؤوليات التي علمه هذا القيد -بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- أن يتحملها ويلتزم بها.

انظر إلى هذا التعقيد الجميل في حياة الإنسان، إنه تعقيد، ولكنه يلائمه، يكمله، بقدر ما يبدو مقيدا له إلا أنه يهيئ له بيئة متكاملة تناسب طبيعته التي خلق عليها. إن الزمن يضبط نفسه، وطبيعة القدرات تحفزه، والمساحة تدربه على الحفاظ على ما بين يديه، وقدره يحمّله مسؤولية حياته.

ليست هذه العوامل الكونية الأربعة وحدها ما يقيد حرية الإنسان، بل هناك الكثير غيرها، لكن هذه على وجه الخصوص علمتني ألا يأخذني الغرور بحريتي “المطلقة” كإنسان، أو بما أسميه “حرية” حتى وإن كانت محددة وفق مبادئ اخترتها بنفسي.

إن الحياة خير معلم، وإنها عبارة ليست مبتذلة أبدًا، فكلما تأملت الحياة وجدت معنى آخر لكونها “معلما لنا”، معنى أعمق، معنى مندثر أو متروك في الركن البعيد وقد تراكم عليه غبار الزمن ولم ينفضه أحد عنه.

هنا وقفة امتنان… للحياة، وقيودها.