يحكى أن سين فُطِرَ على السير، وظلّ يسير في الاتجاه الذي يمليه عليه ما أمامه، يسير إلى الأمام ما استطاع، ويسير إلى الخلف قليلًا ليقفز مكملًا السير “إلى الأمام”، ويسير إلى اتجاهٍ جانبي مغيّرًا مساره ليستطيع السير تجاه مقصده (إلى الأمام) أو ليستمر بالسير في مساره الجديد.

ما أكثر المفردات المشتقة من كلمة (سارَ) في حياة سين! لا يبدلها بعودة ولا تراجع ولا ميل، إذ يرى في العودة خيبة وفي التراجع ترددًا وفي الميل هروبًا، ليس الأمر وكأن أمله لا يخيب أبدًا وعزمه حتمًا لا يصيبه التردد وقلبه لا يهرب أحيانًا، ولكنها رافقته كفاية في المسيرة ولم تتواضع دون تأثير على السيرة، فلمَ عساه أن يصطحبها معه حتى في رحلة سيره؟

دعنا من ذلك، ولننظر عن كثب إلى خط سير أسبوع ويوم من حياة سين.

الأربعاء:

كان يومًا مضببًا لا روح فيه، حتى النسيم البارد الذي من عادته أن يودع تشرين الأول قرر أن يستريح على أعشاش الطيور بدلًا من التراقص بين أوراق الشجر، والشمس التي كنا موعودين بلثامها نفضت عنها الغيم لتستعرض مقامها بكل فظاظة، والليل الذي كان متوقعًا أن ننعم بلطافته –إذ يسبق الخميس–، لم يبخل بالأرق، ولم يشح بالقلق، بل وأمطر على رأس سين بوابل من الضيق من ما وما لا يُستحق.

الخميس:

احتقن صباحه بالكلمات والصور، صباحه كان تقريرًا، تقريرًا شاملًا لكل ما فات من قرارات وكل ما ينبغي أن ينعم به من خيارات وكل ما بدأ يتسابق إليه من تحولات، كان صباحه يمهد لإعصار لم ير منه تلويحة ولم يسمع منه خاطرة، مر مساؤه بسلامٍ حتى اقتحم الليل الكئيب أجواءه، وقع على مسرحية درامية لا رأس لها ولا قدم، مسرحية يبكي جمهورها دون مشاهد، وينتحب مخرجها دون خطأ، ويقبض ممثلوها أجرًا بلا دور، حتى اختار سين أن يكتب لها نصًّا ففاض من قلمه بحرٌ أسود لا نهاية لأفقه ولا انقطاع لتدفقه.

الجمعة:

بعد مأساة الخميس غير المنتظرة، ونوباته المنحطة، وأفكاره الأفعوانية المنحدرة إلى الحضيض، لم تعد لدى سين الطاقة للمقاومة في بركة طين أو حتى الرغبة في السباحة في أعذب نهر، بل اختار أن يحفر له في التربة مضجعًا يتوسده كجنين يتدرب على بكاء الافتتاحية، بكاء الولادة، كسيد نبيل من مملكة جوسون يتباهى أمام كل منزل “لقد جئت، هلمّوا إلي! لقد جئت، هلمّوا إلي!”.. ولكن بانكسار.

السبت:

مضى يوم الجمعة بطريقة تستدعي حذفه من التقويم، بعدما خُتم برسالة مفادها: “عفوًا.. حاول عندما يتحسن حظك”، وقد كان وقعها موجعًا على نفس سين، حتى إنه استجمع ما بقي من قوى قد خارت ولكنها تبدو كقوة إلى حد ما، وبدأ يستعد لمواجهة يوم الأحد، وكأن ما آل إليه أسبوعه هو أن يستيقظ اليوم لينام الليلة ليستيقظ غدًا، فاليوم والآن واللحظة بلا قيمة إلا في أجنداته، وجزء مما هدمه في مسرح الخميس ما زال يحاول بناءه من جديد.

الأحد:

يا لهُ من أحد، يا لهُ من صباحٍ محوريٍّ في حياة سين القريبة والبعيدة، بقدر ما شع لم يكن ينير، وبقدر ما زقزقت عصافيره لم تكن تغرد، وبقدر ما بانت فيه أسنان سين لم يكن للبسمة أثر على أسارير سين، فمضى الصبح بلا لون، مستقبلًا ليلًا بلا طعم، حتى كاد يغادر إلى الإثنين مطأطئ المشاعر ومكسور الخاطر، فأنقذه شهابٌ في السماء يطير ولا يقع، أغناه عن صبحه وليله.

الإثنين:

كان للشهاب أثرٌ مختلفٌ عن أي أثرٍ قد يخلّفه شهاب، “أثره يضيء أكثر منه”، كما قال سين. هنا كان على سين أن يصافح ما مضى من سنين مشوبة بما لا يخطر على بال بشر، مودعًا سنة لم يستطع وصفها إلا بصورة مضحكة ولا يتوقع أن يدركها غيره: “كانت سنة تشبه صوت مجموعة كبيرة من الأواني وهي تسقط دفعة واحدة”.

الثلاثاء:

عام جديد، يبدو كذلك، يبدو أبيضَ ولا يعلم سين ما إذا كان بياضًا فارغًا أم تزينه زخارف بيضاء! لكنه أبيض على كل حال، والأبيض بشرى ما لم يكن رقم حساب بنكي، وبشرى ما لم يكن لون عيني إنسان حي، وبشرى ما لم يكن كفنًا.. لا تسِئ فهمي فتلك من صور التفاؤل. بدأ هذا اليوم بنصٍّ يحمل ملخصًا لحياة سين، لكنه لم يكن واضحًا؛ دعني أصف لك مكنونه، كان يشبه التقرير المالي لجهة حكومية قبل اعتماده، كان يبدو بتلك السرية والحرمة، إلا أنه لا ميعاد لكشفه لطرفٍ ثانٍ ولا ثالثٍ ولا رابع، وعلى الرغم من أن المخطط هو أن ينعكس على هذا اليوم جزءًا من يوم السبت إلا أنه كاد يطابق الجمعة، جمعتان في أسبوع واحد؟ يا لها من مبالغة لا تُطاق.

الأربعاء:

حسنًا بدا الأربعاء وكأنه طوق نجاة، سار بلا تكلّف، رغم عشوائيته المحرجة إلى حد كبير قد كان بسيطًا، ومقبولًا. قرر سين هُنا أن ينزع شجرة سامة من جذورها، فاشترى فأسًا، وبدأ بإسقاط الجذع الصلب الميت فعلقت الشجرة مائلة فوقه، إنه يخشى حقيقةً أن تسقط عليه، لكنه اختار أن يتجاهل ظلال الجذع القريبة إلى حد خانق وبدأ بانتقاء شجرةٍ مثمرةٍ لعلها علاج لما مضى. بعد أن خطا تلك الخطوة الكبيرة -ولستُ هنا أحكي حدثًا مجازيًّا بل مشهدًا حقيقيًّا- سقط سين دون أن يلاحظ، وكأنه على كوكب الأرض بمفرده، ونهض بكاحل ملتوية ليكمل السير هذه المرة وهو أعرج.

يحكى أن سين ما زال يسير، وأنه يدعي استلهام خطواته الجديدة العرجاء من مصدر مجهول، لكنه يتألم في الحقيقة، يتألم بصمتٍ خوفًا من أن يشوه كبرياءه أمام (ميم وتاء وألف).. ولكن إلى (متى)؟!