عندما أفكر بالامتنان كواجب ينبغي تقديمه بحب لما يستحقه، أنتبه إلى كمية الأشياء والأشخاص والأماكن والأحداث التي لا ألقي لها بالًا ولا أعطيها حقها من الامتنان.. هذا هو نوع من القيمة التي نعطيها ما حولنا، أليست قمية الأشياء بيد شاهدها؟ فما هو المكان إن لم يكن له زوار؟ ما هو المقعد بدون جالس؟ ما هي القهوة بدون مرتشف؟ ما هو المال بدون تداول وسعي وربح وخسارة؟ لا شيء..

وهذا المكان بمختلف مستعمراته أو دكاكينه أو بقاعه يستحق الامتنان بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ربما برع المسوق والراعي في جعله جزءًا من حيوات الكثيرين، ولكن حقا، كم شخص من رواد هذا المقهى وعملائه قد ربى وترعرع بين جدرانه؟ أعني -حتما- لا يتعدى ما أقضيه فيه من أيام ثمن العام ولكنه وجهتي الأولى في الكثير من الأحيان..

إن هجرت القراءة واحتجت للعودة إليها حزمت كتبي وارتحلت إلى إحدى زواياه، وإن فقدت المقدرة على كتابة نص نقبت عن أحرفي تحت ظله، وإن أردت أن ألزم نفسي بإنهاء شيء شرعت فيه ولم أتفانى في العمل عليه استنجدت به، استنجدت بكل ما قد أجده فيه من محاسن ومساوئ، فكم أخذ مني من نقود -ولن أكذب- لم أكن على استعداد لصرفها، وكم أصابني بحساسية طعام، فلستُ أقاوم بعضًا مما يقدم، وكم تسبب في صداعي، فبعض زواره -يا إلهي- مزعجين إلى أقصى حد، لكنه أعطاني الكثير، ودون قصد منه.

لقد شهدت مقاعده نموّي، ونمو شخصيتي معي، شهدت خدوش روحي وذراعيّ وهالات عيني، شهدت حسن مزاجي البادي في تجمّلي وسوء حالي البادي في عدم تنسيقي لشيء مما ألبسه.. أمسك بيدي لأنشر كتابي الأول، وشد عليها وأنا في خضم تكوين كتابي الثاني الذي طال مخاضه ولا أعرف بعد أيان ميلاده.. كم من أجرة قبضتها إثر أكواب القهوة التي صرفتها عليه، أعني أن الأمر مضحك فربما ابتعت من القهوة ما يساوي أجرة التدقيق قبل قبضها، ولم أربح شيئًا يذكر ولكني أشعر بالنشوة، فكأني أعيد تدوير مالي كل فصل من فصول السنة وأجمعه من جديد بكل سعادة..

بعض أسراري نسجته هنا، وبعضها دفنته هنا، وبعضها زرعت بذوره هنا لتكبر وتكبر حتى تظهر يومًا للعيان، ولو كتبتُ عن كل سارة من كل يوم قضت ربعه في إحدى بقاع هذا الوطن الافتراضي لكوّنت قبيلة من السارات لا تشبه أولهن آخرهن.

أسوأ ما في هذا الحيز الواسع أنه يظهر لي مدى انطوائيتي، ويؤكد لي أن معظم عمري قضيته وحيدة جدا، أعني جدا جدا.. وأفضل ما فيه أنه يظهر لي مدى اكتفائي بذاتي، ويؤكد لي أني وإن كنت جزءًا من الكل لا محالة إلا أني بالنسبة إلي وحدي الكل، وما الجزء مني إلا أنا أيضًا.

من الطرائف أنه كان سببًا في نعتي بوسواس عدم القدرة على العيش بلا قهوة، وكل من نعتي بذلك تجاوزه إلى القهوة المختصة، وأنا ما أزال لا أتخطى بساطة قهوته، أو أكتفي بقنينة ماء.. فالسر تعدى قهوته إلى حرصي على ألا أخسر أرشيف الذكريات اللامنتهي معه..

شهد هذا المكان عرقلتي في طفولتي، وخلطي بين البندق واللوز، وتدربي على ممارسة الفرنسية والإنجليزية، وهروبي من اضطهادات مجتمعية لم يكن ليتحملها سواي، وتوطيد العلاقة بوالدتي، ولف شرائط تخرجي، شهد لي مهارتي في الترجمة، وشهد عرق تماريني، شهد انكبابي على الكتب للتثقف مرةً ومرةً للدراسة، شهد تسللي من الجامعة بحثا عن شيء من الحرية والاعتداد بنفسي، وشهد استقلالي، استقلال وقتي على أقل تقدير، وبعد سنين من العشرة احتفلت فيه يوما ما بذكرى ميلادي الثاني والعشرين، ويبدو أن مقاعده هذه، ونباتاته، وكوبه الأبيض سيهنئاني ببلوغي التاسعة والعشرين من عمري في غضون أسبوعين.

لقد أعطاني هذا المكان درسًا، أن الأماكن أحيانًا ما تكون أوفى من الأشخاص، وأن اختياراتنا أحيانًا ما تكون مخلصة لنا أكثر من بعض الصدف، لقد علمني هذا المكان الكثير، وعلى رأس ذلك أن ثروتي تكمن في قلمي، في قدرتي العقلية، في قوة شخصيتي، فيني أنا.

ممتنة لهذا المكان، قد كانت قهوته أكثر من مجرد قهوة.