الكتابة مأوى لي من كل شيء، تشبه البحر في احتوائه لما أبوح به، ولكنها أقرب إلي، وتبادلني الحديث، تأخذ مني بقدر ما تعطيني، حتى أنها قد تأخذ مني لتعطيني ؛ فقد أخذت انتباهي لما حولي لتعطيني نفسي، وأخذت وقتي لتعطيني سلامًا بعيدًا عن الضوضاء، وأخذت لساني في أحيانٍ كثيرة لتعطيني الحق باستنطاق قلبي وعقلي حين يجحف لساني بحق أحدهما، وربما أخذت أفكاري جميعها لترجعها بوضوح أكبر وتشتت أقل .
الكتابة حرية، وأينما يحط إلهامها أشعر بأني في وطني، فبها يصبح الليل وطني، والهدوء وطني، والمقهى وطني، والنعاس كذلك قد يصبح بها وطني .
الكتابة سُلطة، جنودها الأحرف، تدعمها، وتكون لها بمثابة حلقة الوصل بينها وبين المواطن، وما المواطن إلا من يمارسها، وكل حرف هو كلوحٍ خشبي، إن جمعت الأحرف قد تصنع قاربًا، وهو النص، حيث يحمل على متنه فكرة أو أكثر، لينقلها من شاطئ كاتبها إلى عين قارئها، وقد لا يرسو .
أما القلم، فهو في هذه الصورة آداه نجارةٍ، يضبط كلمة ويستبدل أخرى، يحد معنًى ويجوف آخرًا، القلم آداة إن اجتمع بأطراف الكتابة من حرف وفكرة وكاتب وقارئ وغيرهم، ولكنه إن استقل لفظه عنهم كان أكثر من مجرد آداةٍ ؛ فهو باستقلاله عنهم يجمعهم كلهم، لعبّر عن الكاتب والكتابة، والاحساس والفكرة، والمكان والزمان …
أما مجداف القارب فهو الأسلوب الذي يسوق هذه الأفكار، يحركه الاحساس الذي كلما اشتد ساعده وقوى، كلما كان باستطاعته أن يسيطر على الأسلوب ليوظف النص لصالحه، حتى يصل إلى القراء .
وسطح البحر هو الوسيط الناقل، هو المساحة، هو الورقة، لا تُظهر لعين القارئ من البحر إلا ما تحمله من النصوص .
الورقة أيضًا كالميدان، وذلك كان أصدق تشبيه لها على الإطلاق، تتعارك فيه الأفكار والآراء، بين الحين والآخر، بين الفرد والآخر، وربما بين عقل الفرد الواحد وقلبه، وقد تكون الورقة أحيانًا خصمًا للقلم، كما يكون الصمت خصمًا للكلام، حتى ينتصر الكلام والقلم .
* يلتقي القلم بالورقة ، ويبدأ الصراع ، يجرحها بحروفه ، وينزف عنها حبرًا ، لسطورٍ عددًا ، حتى يهدآن بطعنةِ على نهايةِ سطرٍ ، ويفترقان .