إلى رفيقي المخلص/ …

لم أفهم إشاراتك لي منذ الطفولة، لطالما أيقظتني ووالديَّ بعد منتصف الليل وأرقصت أفكاري على نبض أذنيَّ في السلالم درجةً درجة، وخطوةً خطوة، وانحناءةً انحناءة، وعندما اعتزلني إيقاعك لعقدين ظننتُ أنه كان قرينَ عمرٍ ولّى، لا يمت للحاضر بصلة، حتى التقينا منذ عامين للمرة الأولى.

منذ لحظة لقائنا الأولى، تلك، وأنا بفضلك أستشعر كل يوم جمال الاتزان، وأتلذذ بلحظات الإنصات إلى الأصوات في غيابك، وأضرب للهدوء ألف حساب، “وأدق” للنومِ ألف تحية.

كم من موعد بيني وسجاد التمارين أُخِّرَ إلى أجل غير معلوم لاستضافتك، وكم من رغبة في اكتشاف ما وراء حيطان منزلي أُجِّلَت لكيلا يكون الفضول سببًا لتعكير مزاجك، وكم من مناماتٍ أرادت السمر بين وسائدي ولم أفتح لها الباب حفاظًا على خصوصيتك فبُدِّلتَ إلى هلاوس وأحلام يقظة، وكم من اجتماعٍ تنبأتُ بحلاوته وأدركَ امتعاضي.. بسببك.

ما اختلف البارحة عما مضى هو أني رغم اعتيادي على التقوقع عند التصاقك بي شعرتُ لوهلة بحاجتي إلى الطيران بعيدًا عن بقعتي المعتادة، شعرتُ برغبتي للمرة الأولى في مجاورة الضوضاء في حضرتك، وفي تحمل الموجات المتذبذبة بين سعةٍ وضغطٍ في مواجهتك، فخرجتُ إلى الشوارع والناس والحياة ومخالبك مغروسة في رأسي وباطنا كفيّكَ يسدّان أذنيَّ قدر الإمكان، ورغم أنفكَ رافقتني في سهرتي، ثلاثًا كنَّا وأنتَ رابعنا.

أراك اليوم متربعًا على عرشك، في دماغي تحديدًا، وتضغط بقدمك الساخطة على طبلتي اليسرى، ولم تعلم بأن الطبل يطربني، بل ويزيد من رغبتي في الرقص حتى على مآسيَّ ومعضلاتي، لذا اضرب وقل لي، أرأيتَ منزلًا أكرم من جمجمتي؟

رفيقي المخلص، أيها الطنين العصامي المثابر الحازم ذو العزيمة والإصرار، خذ مني ما شئت من الوقت حتى تشيخ وتسأم، ولكن فلتترك لي الباقي -ببعض مروءتك- حتى تنسلخ عني وأفطمك؛ فإني اشتقت إلى خلوة لا تشاركنيها، وإن حياتي قد ملّت البقاء رهن إشاراتك اللامعدودة.